كان والدي حيث تركتُه تماماً. ظهرت أمام عيني صورته وهو جالس على حقيبته الخشبية البالية على جانب الطريق، منتظراً أي سيارة لنقله بعيداً. ما زلت لا أصدق ما فعلتُ، لماذا أخذته من الحافلة وقررت الذهاب في رحلة طويلة مع والدي. لكنني أعتقد أن هذه الصورة التي علقت في ذهني لعبت أيضاً دوراً في تغيير رأيي. نزلت من السيارة ووضعت الحقيبة، التي لا أعرف ما بداخلها، بجوار حقيبتي مرة أخرى. ولم يعد والدي قادراً على الوقوف. ضرب على سرواله الفضفاض بيده عدة مرات من الخلف، محاولاً تنظيفه بطريقته الخاصة، لكنه لم يستطع. أمسكت بذراعه ووضعته في المقعد الأمامي، على الغطاء الذي ما زال في مكانه، وانطلقنا معاً.
تجمعت حبَّات العرق على جبهته مرة أخرى. كان يمسح عرقه بظهر يده المتورمة. قمتُ بإنزال نافذة السيارة قليلاً وأردت أن تنبعث رائحة التراب المبلل من بعيد لتنعشه بالرياح التي تتدفق في المدينة منذ الصباح. أغمض عينيه للحظة وتنهد بعمق. كأنه ممتنٌ لأنه يتنفس مرة أخرى في تلك اللحظة. ومع ذلك، لم يكن ينظر إليّ، لكنه يتابع الحافلات المتعبة التي تغادر المحطة.
أخفضتُ صوتي قليلاً وقلتُ:
-أخبرني، لماذا ستذهب إلى قارص في بداية هذا الشتاء؟
في تلك اللحظة ظهرت سحابة قاتمة على وجهه، وكأنه نادم على النزول من الحافلة وركوب سيارتي. حاول السيطرة على عينيه وشفتيه المرتعشتين. لم يبك، ولكن كأنَّ السماء بكت بدلاً عنه، وسقطت قطرات قليلة من المطر على الزجاج الأمامي للسيارة، ونحن نمر على أشجار الأكاسيا التي تساقطت أوراقها، ولافتات الطرق والإطارات المنفجرة ومحطات الوقود واللوحات الإعلانية وعربات بيع البطيخ والمصانع…
قال:
-بعد ثلاثة أيام ستبدأ احتفالات ليالي الحَكَواتيَّة في قارص. أردت أن أرى أصدقائي للمرة الأخيرة.
ارتجف صوته فجأة، وكأن كلمة “للمرة الأخيرة” تخرج من فمه للمرة الأخيرة.