كانت الأمة العربية أمة أمية لا تتعلق بشيء من الصناعات ولا العلوم إلا قليلاً. فلما جاءها الإسلام لم يكن لها مجال في العلوم .. لأنها كانت في دور التكوين وذلك محتاج إلى استعمال ما عندها من القوة والفكر في سبيل ذلك، فانقضت مدة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم في الفتح وتأسيس المملكة وتمهيد طريق الدعوة إلى الدين، وكانت الحال كذلك في صدر الدولة الأموية إلا أنه وجد من رجالها في أوسط أدوارها من عنوا ببعض الصناعات التي كانت فيمن سبقهم من الأمم واهتموا بترجمة بعض الكتب منها. وكانت الدولة الأموية أقرب إلى من قبلها في السذاجة الصناعية، فلم يكن لترجمة الكتب فيها كبير حظ ولا عظيم أثر، فلما جاءت الدولة العباسية كان اختلاطها بالفرس أكثر لأن دولتهم بالخراسانيين والموالي قامت، وهذا الاختلاط جعل نفوس العباسيين تصبو إلى الاطلاع على شيء مما عند الفرس واليونان آثار متقدميهم من العلماء والحكماء والفلاسفة وكان أول من عني بترجمة شيء من هذه الكتب أبو جعفر المنصور ثاني خلفاء العباسيين، فلما كان زمن هارون الرشيد وغلب على بعض المدائن الرومية الكبرى كأنقرة وعمورية عثر على كنز ثمين من كتب اليونان فأمر أن تترجم له فترجمت، وبذلك كانت حركة الترجمة أقوى منها في عهد المنصور وكان للبرامكة يد طولى في الترجمة وعون المترجمين عليها بما كانوا يدرونه عليهم من الأرزاق.
لما ولي المأمون كان قد تأثر فكره بما قرأ من هذه الكتب وأحس بنفعها فقوى حركة الترجمة ونشطها تنشيطاً أساسه الاقتناع بالفائدة وساعده الجود والبذل في هذا السبيل.