في مرحلة من التحوّلات التي شهدتها أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بقيت روسيا القيصريّة تحت سيطرة الطبقات القديمة والأفكار المحافظة. وبالمقابل راحت تظهر في أجواء المثقفين أفكار لم تترسّخ في روسيا بل كانت موجودة بين المهاجرين. في هذه الأجواء كتب تورجنيف “دخان”، فصوّر جماعات من المهاجرين في مصيَف ألماني. صوّر المجتمع الأرستقراطي بأناقته ومظاهره الخارجيّة، وفراغه وانحلاله في الداخل، كما صوّر منتديات أدعياء التحرّر بمناقشاتهم العقيمة وخضوعهم الأعمى للقائد.
ولكن دخان ليست رواية سياسية، بل هي قصة حب تتداخل فيها الأحداث السياسية مع حوادث الحب من دون تكلّف، بل عبر تصوير أدبي جميل يعكس أفكار ونماذج حياة تلك الفترة. فيقع لتفينوف الشاب المثابر، الذي سافر ليدرس، تحت سلطان عاطفة مستعرة نحو امرأة ارستقراطية ناريّة، في وقت كان مخطوباً لقريبة له تمثّل نموذج الفتاة الطّيبة الحنون.
كل شيء كان يشير إلى أن لتفينوف لن يعرف مع تاتيانا تلك النشوة التي وجدها بين ذراعي إيرينا، ولكنه سيذهب إلى تاتيانا. كما أن الشعب الروسي لن يصنع معجزة بين عشيّة وضحاها، ولكن ليس أمامه سوى أن يتقدّم بمثابرة وجد.
هذه هي حكمة تورجنيف في “دخان”، وهي حكمة كسبها في مجال التفكير السياسي والعاطفة الشخصيّة على السواء من تجربة السنين المريرة.
يقول ادوارد جارنت عن شخصيّة إيرينا “إنها تجمع بين الخير والشرّ حتى لتبدو النساء الخيّرات بجانبها تافهات والنساء الشريرات مصنوعات.. فهي ترغب بالتسامي رغبة صادقة.. ولكنها تهدم الرجل الذي تحبّه.. لقد خُلقت لتفسد من دون أن يمسّها الفساد”.