أن يجمع كاتب شتات أبحاث له ويقدها فصولاً متجاوزة بين دفتي كتاب واحد، فذاك تقليد راسخ في أعراف الكتابة والنشر، عربياً وعالمياً، يستمد مشروعيته من أن عناصر من الوحدة لا بد أن تتوافر في هذه الأبحاث، أدناها متأتية من وحدة الذات الكاتبة. بيد أن إشكالية الوحدة التي تشد مختلف فصول كتاب ما -وقد كتبت من قبل ونشرت في سياقات مختلفة- تبقى مسألة أساسية بالنسبة إلى الكاتب الذي يرى في الكتاب والنشر رسالة قبل كل شيء. وعادة ما يقدم المؤلف على نشر دراسات مختلفة في مؤلف واحد حينما تكون مباحثها متقاربة أو قضاياها متجاورة أو مناهج المعالجة فيها متجانسة أو سياقات الرؤية والطرح والتفكير التي تستحكمها متشاكلة. فأي ضرب من الوحدة يتوفر عليها المصنف الحالي؟
إذا أخذنا مباحث الفصول المجموعة في هذا الكتاب وقضاياها وموضوعاتها على ظواهرها وجدناها أبعد ما تكون عن التقارب أو التجاور. فهي تنتقل بالقارئ من قراءة الخطاب الكلامي لمحمد عبده (الفصل الثالث) إلى عقل المواجهة والمقاومة وسقوط بغداد الثاني (الفصل السادس)، ومن قراءة الفكر الخلدوني (الفصل الثاني) إلى تحيين الإشكال الإصلاحي وفق شروط القرن الحادي والعشرين (الفصل السابع)، ومن المسألة التشريعية في الإسلام (الفصل الرابع) إلى حوار الحضارات (الفصل الخامس).
إن الوحدة البانية لهيكل هذا الكتاب مؤسسة على عنصرين مترابطين في سياقه: يتجسد العنصر الأول في وحدة الإطار المعرفي الذي يلف جميع فصول الكتاب وفي وحدة المشروع الذي يسعى إلى استئنافه هذا الكتاب، مشروع خطاب النقد الثقافي في الفكر العربي المعاصر.
تقوم استراتيجية خطاب النقد الثقافي في الفكر العربي المعاصر، الوليد في شروط هزيمة 1967، على القول بحتمية التحديث الثقافي في المجتمع العربي، وارتباط هذا التحديث بالطموحات القومية في تصحيح مسارات الفعل الاجتماعي العربي كآفة حتى يصل إلى تحقيق فعلي لما يطمح إليه هذا المجتمع منذ قرنين من أهداف نهضوية وتحررية ووحدوية وتنموية تخرجه من حالة الإنحطاط الحضاري التي ما برح يعيشها، وتردم مسافة التخلف التي تفصله عن القوى الأجنبية المتربصة به.
وحيال حركة النهوض العربي في الثلث الأخير من القرن العشرين، الحبلى بالعديد من الإمكانيات الفكرية والتيارات الإيديولوجية، فإن آخرية مشروع خطاب النقد الثقافي المعاصر، التي تدور حولها فصول هذا الكتاب، إنما هي محاولة شق مسلك مغاير وسط هيمنة تقاطب ثنائي شديد التنافر: مقازمة وممانعة/إرادة تحافظ ثقافي في مقابل هيمنة واستعمار/إرادة تغيير ثقافي. وعلى هذا النحو، يكون رهان عملنا المهتم بخطاب النقد الثقافي الذي ظهر في الفكر العربي بعد هزيمة 1967، في سياق بحثنا عن تحول الخطابات وتفاصلها في هذا الفكر، رهان يتخطى اللحظة الحاضرة وبالضرورة المستوى المعرفي ليلامس مستوى الفعالية الإيديولوجية في الواقع التاريخية المخصوص الذي تحياه الأمة العربية اليوم؟
وإن خيارات خطابنا نحن، عبر الأعمال التي نقدمها في هذا الكتاب، وكذلك استراتيجياته التي لا نخفيها، إنما تتمثل في المساهمة في إخراج خطاب النقد الثقافي في الفكر العربي المعاصر، من حيز التهميش الذي يعاني منه على مستوى وعي النخب الفاعلة به، وإبراز مشروعه البديل واستئنافه في سياق بناء البدائل الفكرية القادرة على قيادة أوسع الجماهير العربية نحو فعل حضاري خلاق يقلب وضع الأمة العربية من مزيد التأزم والانكسار إلى التركيم الإيجابي على درب نقلة حضارية حقيقية تتخطى بها حالتها الراهنة.