عرفته فى يوم من أيام الصيف الماضى.. فى قلب القاهرة.. وفى شارع من أفخم شوارعها.. كنت أسير فى ذلك الصباح إلى حانوت حلاقى.. وكان الهواء حارا ممزوجا بنسيم لطيف.. وكان صدرى منشرحا, فقد صادفت وجها مليحا, لغادة شقراء هبطت معى بكلبها فى مصعد الفندق الذى أتخذه منزلا.
مشيت وأنا أكاد أصفر بفمى وأترنم. وأشرفت على حانوت الحلاق.. وإذا أنا أراه.. أرى ذلك الذى كتب لى أن يكون صديقى.. رأيته يخطر على الإفريز كأنه غزال, وفى عنقه الجميل رباط أحمر وإلى جانبه صاحبه: رجل قروى من أجلاف الفلاحين.. ووقف المارة ينظرون إليه ويحدقون, وبجمال منظره ورشاقة خطاه يعجبون.. لقد كان صغير الحجم كأنه دمية.. أبيض كأنه قد من رخام, بديع التكوين كأنه من صنع فنان.. وكان يمشى مطرقا فى إذعان, كأنما يقول لصاحبه: اذهب بى إلى حيث شئت فكل ما فى الأرض لا يستحق من رأسى عناء الالتفات..
ذلك هو "الجحش" الصغير الذى استرعى أنظار الناس فى ذلك الشارع الكبير.. ومنظر جحش فى مثل هذا الحى كاف وحده لإلقاء العجب فى النفوس.. ولكن هذا الجحش كان ولا ريب جميلا فى الجحوش.. فقد كانت عيون المارة تشع بالإعجاب قبل العجب.. ووقفت به سيدات إنجليزيات داخلات محل "جروبى" فما تمالكن أنفسهن من إظهار الحب له.. فلو أنه شئ يحمل لما ترددن فى اقتنائه وحمله كما تقتنى الحلى وتحمل.. وكان صاحبه يريد بيعه فيما خيل إلىَ.. فلقد سمعته يقول لمن أحاط به من مارة وباعة صحف وغلمان.. بخمسين "قرش"!..
وكانت قدماى على الرغم منى تسيران بى مع الجمع المحيط بالجحش.. وكانت عيناى على الرغم منى لاتنحرفان عن النظر إلى هذا المخلوق الصغير الجميل, وإذا بفمى على الرغم منى ينطلق صائحا: بثلاثين "قرش"!..
فالتفت الجمع كله نحوى.. ودار لغط وارتفع الكلام..