إن التحولات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية المتسارعة التي طرأت على شبه الجزيرة العربية، وخاصة على المملكة العربية السعودية مع اكتشاف النفط إثر الحرب العالمية الثانية، كانت ولا تزال موضوعاً ثرّاً للعديد من الأعمال الروائية الناجحة، نذكر منها على سبيل المثال الملحمة الروائية «مدن الملح» لعبد الرحمن منيف و «لخطه ضعف» للسفير السعودي فؤاد المفتي وسواهما. ومع «الانفتاح» الفكري والاجتماعي في المملكة العربية السعودية في أواخر القرن الماضي ومستهل القرن الحالي كثرت الأعمال الروائية لكتاب سعوديين، إناثاً وذكوراً، بقدر من الحذر، ثم بجرأة لافتة في أيامنا هذه، مثل رواية «بنات الرياض» لرجاء الصانع ( دار الساقي في بيروت 2006) و «قلب من بنقلان» لسيف الاسلام بن سعود بن عبد العزيز آل سعود ، (دار الفارابي، بيروت 2006) ورواية «بعت الجسد»، موضوع كلامنا اليوم للكاتبة فكتوريا الحكيم، وهو اسم مستعار أيضاً.
لا يخفى أن استبدال الأسماء المستعارة بالأسماء الحقيقية، خاصة بالنسبة إلى الكاتبات، يدل إما على انتماء الكاتبة إلى العائلة المالكة أو على الخوف من ردود الفعل المتوقعة حيال المساس تصريحاً أو تلميحاً بـ «التابوات» الدينية والاجتماعية، لا سيما أن جماعة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» بالمرصاد لكل من يتجاوز الحدود المرسومة على هذا الصعيد.
أطر مغلقة
في رواية «بعت الجسد» لفيكتوريا الحكيم (400 صفحة من الحجم الوسط) تدخلنا الكاتبة الى نفوس مغلقة ومنازل مغلقة في المجتمع السعودي حيث يدور الصراع بصمت صارخ بين نمط الحياة المحكوم بأحكام الشريعة الإسلامية والتقاليد الاجتماعية الموروثة من ناحية، وأنماط الحياة الطارئة بحكم الانفتاح على الخارج من ناحية ثانية. صراع طبيعي نجد مثله في الحالات الانتقالية الحادة أو المتعسفة التي تتعرض لها المجتمعات البشرية في كل زمان ومكان ولا بدَّ لهذا الصراع من أن يسفر عن بعض الضحايا، أحياناً.
حرية المراة
تأخذنا مما نقرأ في رواية «بعت الجسد» جرأة الكاتبة في الكشف عن معاناة المرأة السعودية، المثقفة طبعاً، سواء أكانت من أفراد الأسرة المالكة أم مواطنة عادية، من رفض الرجل لما تصبو اليه من حرية في التصرف والعمل والحب، لا سيما بعد أن جارت الرجل وإن على نطاق محدود في التحصيل الثقافي والعلمي سواء داخل المملكة أو خارجها، والأخف من ألوان الحضارة الغربية في مختلف تجلياتها، حتى ما يتنافى في تلك التجليات في بعض وجوهها مع الشرائع الدينية السائدة، أو على نحو أكثر دقة ما «يستخلصه» من تلك الشرائع للحد من سعي المرأة الى الحصول على قدر من الحرية في حياتها الخاصة والعامة. «فقد تخوَّف الرجال من عقل، تعلم في زمن أقصى، الضموح فيه فك الحرف وضبط الكبسة» تقول «ميتي» بطلة الرواية (ص 59). وفي موقف آخر يخاطب أمير قريب ميتي بعدما عبرت له عن حبها فيقول لها («ميتي لازم تعرفين انك منتيب (لستِ) من مستواي. لا يمكن ان أحب أمثالك» (ص 75). إن في هذا القول دليلاً على ما يعتري بعض فئات المجتمع السعودي من شعور بالتفوق أو بالاستعلاء ناتج إما عن انتساب للأسرة المالكة أو عن ثراء طارئ لم يكن صاحبه يحلم ولو بجزء يسير منه من قبل. لكن هل تستطيع المرأة في ظل هذه الأوضاع المأزومة أن تتمرد؟ لا أظن ذلك. التمرد الفردي انتحار. «بنات الحمايل مثلنا رهائن الأصل وكل عمليات تحرير الرهائن فاشلة». هذا ما قالته صديقة لميتي التي تحمل شهادة الدكتوراه في التاريخ (ص 66) والمقصود بكلمة «حمايل» النساء اللواتي يحلمن بالزواج من أمراء إما بزواج دائم وإما بزواج موقت… لذلك تبدو المرأة في رواية «بعت الجسد» مستسلمة لقدرها وتعبر ميتي في ختام الرواية عن هذا الاستسلام بقولها «لهم (أي للرجال) البحر الواسع ونسماته الرطبة، وحرية الموانىء، ولنا (أي للنساء) الوادي الجاف، الذي تجاور» (ص 425).