ان الذي لا شك فيه أن كثرة كثيرة من الناس تشكو من درس النحو العربي، ومما تعانيه من الكد في سبيل إتقانه وإقامة ألسنتها وأقلامها عليه. وعجيب أمر هذه اللغة المفترى عليها، وعجيب أمر نحوها. فمنذ فجر الحضارة العربية نهض أصحاب هذه اللغة يدرسونها ويضعون القوانين التي تحكمها حتى إننا لا نعرف لغة اهتم بها أصحابها قدر ما لقيت العربية من اهتمام، ومنذ عصر الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم والعلماء يتتابعون واحداً في إثر واحد ومدرسة بعد مدرسة، في إنشاء النحو العربي وتطويره وتأصيله، حتى بلغ مرحلة من النضج العربي والوضوح المنهجي لم يبلغها علم آخر.
يقول المستشرق الألماني (يوهان فك): ولقد تكلفت القواعد التي وضعها النحاة العرب في جهد لا يعرف الكلل، وتضحية جديرة بالإعجاب بعرض اللغة الفصحى وتصويرها في جميع مظاهرها، من ناحية الأصوات، والصيغ، وتركيب الجمل، ومعاني المفردات على صورة شاملة، حتى بلغت كتب القواعد الأساسية عندهم مستوى من الكمال لا يسمح بزيادة لمستزيد.
وتلك حقيقة لا نستشهد بكلام مستشرق على صوابها ولكنا نشير فحسب إلى هذا النحو وقدرته على حفظ العربية طوال هذه القرون، وصيانتها من التحلل والفساد، وذلك وحده كاف أن نطرح من فكرنا تشكيك الناس في النحو العربي، وعلينا أن نبحث عن الداء في موطن آخر.
والمتتبعون لتاريخ العربية في العصر الحديث يعلمون أنها تعرضت لخطة مدروسة تستهدف القضاء عليها من خلال القضاء على نحوها، وظلت هذه الخطة تعمل عملها حتى وقر في أذهان الناس أن النحو العربي صار جامداً لا يساير العصر، وأن علينا أن نبحث عن نحو جديد، وظهرت إلى الوجود تجارب من هنا ومن هناك ماتت الواحدة منها بعد الأخرى وظل النحو العربي هو هو دون أن يصل المخططون إلى ما يبغون من القضاء عليه.
على أننا لا ينبغي أن ننكر أن طريقة تدريس النحو في مدارسنا وفي جامعاتنا غير صالحة في نقل ما وضعه النحاة إلى الناشئة والدارسين، ولعل ضعف مدرس العربية ثمرة من ثمرات التخطيط الذي أشرنا إليه منذ قليل. فالعيب – في الحق – ليس في النحو العربي ولكنه يكمن فينا نحن لا جدال. ولقد رأينا شباباً من الأوربيين يتكلمون النحو العربي ويتقنونه ويرجعون فيه إلى مصادره الأولى، كما نرى كل يوم أعداداً لا حصر لها ممن يمارس اللغة فيتقنها كتابة وضبطاً وأداء.
والنحو أساس ضروري لكل دراسة للحياة العربية، في الفقه والتفسير والأدب والفلسفة والتاريخ وغيرها من العلوم، لأنك لا تستطيع أن تدرك المقصود من نص لغوي دون معرفة بالنظام الذي تسير عليه هذه اللغة. يقول عبد القاهر: (إن الألفاظ مغلقة على معانيها حتى يكون الإعراب هو الذي يفتحها، وأن الأغراض كامنة فيها حتى يكون هو المستخرج لها، وأنه المعيار الذي لا يُتبين نقصان كلام ورجحانه حتى يُعرض عليه، والمقياس الذي لا يُعرف صحيح من سقيم حتى يرجع إليه، ولا ينكر ذلك إلا من ينكر حِسّه، وإلا من غالط في الحقائق نفسه).
ونحن نؤمن بضرورة تدريس النحو في جامعاتنا في مظانه القديمة إلى جانب الدرس التطبيقي، ولقد كان ذلك نهج القدماء؛ قدموا لنا كتباً تضم أبواب النحو، وتوَفَّر عدد منهم على معالجة النصوص معالجة نحوية تطبيقية؛ فكير من كتب التفسير يهتم بالقضايا النحوية في النص، كما أفرد غير واحد كتباً خاصة في تحليل القراءات القرآنية تحليلاً نحوياً كما نعرف عن أبي علي الفارسي في كتابه (الحجة في القراءات السبع) وعن تلميذه ابن جني في كتابه (المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها)، وكتب آخرون كتباً في إعراب القرآن مثل (إعراب القرآن) المنسوب إلى الزجاج، (وإعراب ثلاثين سورة من القرآن (لابن خالويه)، وإملاء ما من به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن) لأبي البقاء العكبري. كما كتب ابن جني شرحاً نحوياً لديوان المتنبي.
ومن هذه الطريقة، ومن الإيمان بضرورة تدريب الطلاب على درس النحو درساً تطبيقياً نقدم هذا الكتاب، وقد قسمناه بابين؛ أولهما عن الكلمة، وثانيهما عن الجملة، ثم ألحقنا به قسماً خاصاً عن بعض المتفرقات التي لها استعمالات معينة بالإضافة إلى نماذج إعرابية.
ويرى الدارس أننا نعتمد في عرض المادة النحوية على المصطلحات القديمة مع شرح ما تعنيه هذه المصطلحات بالأمثلة الموضحة وطريقة إعراب كل مثال، ثم ذيلنا كل قسم بتدريبات من القرآن الكريم. وغني عن البيان أن هذا الكتاب لا يعرض لشرح أبواب النحو جميعها على طريقة الكتب التفصيلية، وإنما يهدف إلى تقديم الاستعمالات المختلفة للجملة مع تحليلها تحليلاً نحوياً تطبيقياً.ولقد دلت التجربة على أن هذه الطريقة التطبيقية – بجانب الدرس اللغوي – تأخذ بيد الطالب إلى فهم أصول الجملة العربية وإلى إدراك نظامها ومن ثم إلى إتقان النحو إتقاناً واضحاً.