تضعنا رواية «آخر المدن» للكاتب زهير الجزائري، الصادرة عن دار سطور للنشر والتوزيع/ بغداد 2023، أمام ثنائية المفارقة بين السرد والوثيقة، فبقدر ما تستدعي لعبة السرد التخيل والإثارة والرغبة بتقويض التاريخ، فإن الوثيقة تعمد إلى مجاورة الواقع وصيانته، وربما استحضار التاريخ نفسه بوصفه مجموعة أحداث وحكايات وصراعات.
لم يشأ الروائي وضع الوثيقة أمام «المتخيل السردي»، بل جعل هذا المتخيّلَ مجسَّه السردي للحفر في المخفيّ من الوثيقة، وهو ما جعل حبكة الرواية تنمو في إطارٍ «سائلٍ» يتسع للتشابك بين ما هو سردي، وما هو وثائقي، فتمارس عناصر السرد خرقها للثابت، والوجود، ولاصطناع رواة خارقين، متمردين، مفتونين بتحويل الشهادة/ التدوين إلى رؤيا، وهو الضد مما حفظته الوثيقة في «لا وعيها» حول حادثة «بشتشان» الدموية، بوصفها مرجعية وثائقية وإطارية للرواية، إذ تحولت إلى «تاريخ» فاصل بين زمنين، استدعت لها كثيراً من أولئك الرواة، الذين عاشوا أزمتها ودمويتها، فحمّلوها إسقاطاتهم النفسية والأيديولوجية. والرواية في هذا السياق لا تعدو أن تكون تمثيلاً لما يرويه عنها أولئك الرواة، الذين تمرّدوا على أصل الحادثة، فحوّلوا الوثيقة إلى «ظل» سحري للذوات المأزومة، مثلما حوّلوا الأمكنة القاسية والمُوحشة إلى دوستوبيات طاردة ومُعادية، عاشوا معها سيرة هروبهم من ذاكرة الحادثة، وكأنهم كانوا يهربون من أوهامهم، إذ بَدَت فكرة الهروب نظيرة للبحث عن فكرة الخلاص، ونفياً لفكرة الموت، ومواجهة مفارقة مع الذات المهزومة والآخر / السلطوي، والآخر / الدوغمائي / الأيديولوجي.