للوهلة الاولى لن تر في الإنسان الذي نسعى في هذا الكتاب لسبر خفاياه إلا كتلة من اللحم والعظم تحركها بخيوط عضلية كتلة دهنية مفصصة، كائن هش يأكل بعضه بعضاً، ينشأ في ظلمة ويعيش في ظلمة وينتهي إلى ظلمة.
هذا الكائن الهش الضئيل القميء كائن جبار، غريب، في جسده نهر أطول من نهر دجلة بستمائة ضعف ينساب بمضخة أكبر بقليل من علبة كبريت، ولديه خلايا عصبية لو ربطت مع بعضها لتحولت إلى حزام يلف الكرة الأرضية من أقصاها إلى أقصاها، وتتحرك في وجهه 62 عضلة عندما يتجهم وأقل من نصفها عندما يبتسم وهو لذلك لا يبتسم إلا نادراً.
هذا الكتاب الذي نسعى فيه لمعرفة خفايا الإنسان يضعنا فوراً أمام قوى المجتمع الذي يملك صلاحية الحكم على الأفعال والأعمال والنوايا، يكفئ ويعاقب، يراقب ويدافع، يسلب ويعطي، كل هذا يحدث بلا حدود وبلا حواجز وبدون مقدمات، والإنسان الفرد مطيع دائماً ومتمرد أحياناً ولكنه في النهاية أداة مسلوبة الإرادة خاضعة لقوى المجتمع إلا إذا كان مدمناً على التمرّد العبثي. إنها ولا شك ملهاة نتمتع فيها بأدوار مؤقتة ولكنها تحتاج إلى مخرج غير مختل عقلياً لكي يوزع علينا أدوارنا المقررة سلفاً بإرادة أكبر من الممثلين والمخرجين.