اتضح لي هذا على الخصوص، يضيف كيليطو، وأنا أقرأ الجاحظ، فهو الذي خلصني من شعوري بالنقص يوم أدركت أنه لم يكن يستطيع، أو على الأصح لم يكن يرغب في إنجاز كتاب بمعنى استيفاء موضوع ما والمثابرة عليه والسير قدماً دون الالتفات يميناً أو يساراً. هو نفسه يقر بهذا ويعتذر مراراً … على ماذا؟ كدت أقول على تقصيره، وما هو بتقصير. يعلل الأمر بتخوفه من أن يمل القارئ، والواقع أنه هو أيضاً كان يشعر بالملل ويسعى إلى التغلب عليه، وهذا سرّ استطراداته المتتالية. أسس الجاحظ بصفة جلية فن الاستطراد، دشن (ها نحن قد رجعنا دون أن نشعر إلى مفهوم المرة الأولى) فن الانتقال المفاجئ من موضوع إلى موضوع، من شعر إلى نثر، من موعظة إلى نادرة، من مَثَل إلى خطبة، من جد إلى هزل. وإذا كان من اللازم تشبيهه بكاتب أوروبي، فلا أرى أفضل من الفرنسي مونتيني الذي كان يكتب، على حد قوله، «بالقفز والوثب». ولا أشك أنه كان يقرأ أيضاً بهذه الطريقة.
الكتابة بالقفز والوثب … أفهم اليوم لماذا قضيتُ سنوات في دراسة المقامات، ذلك أن مؤلفيها، المتشبعين بفكر الجاحظ، نهجوا الأسلوب نفسه، وقد أكون تأثرت بهم، فكتبي تتكون من فصول قائمة بذاتها، إنها استطرادات، مجالس، أو إذا فضلنا مقامات، بكل معاني الكلمة.
في جو من الندم الفكري
0.00$
نفذت الكمية
رمز المنتج: في جو من الندم الفكري
التصنيف: فكر وفلسفة وعلم نفس
منتجات ذات صلة
فكر وفلسفة وعلم نفس
0.00$
فكر وفلسفة وعلم نفس
0.00$